كاساندرا وسط الحمقى | ترجمة

كاسندرا ممسكةً بتثمال أثينا لدى اختطافها على يد أياكس | ريشتارد إيبيرت

 

المصدر: Hrpers.org.

ترجمة: أنس إبراهيم - فُسْحَة.

 

لا تتضمّن ثقافتنا قصّة كاساندرا، المرأة الّتي قالت الحقيقة ولم تُصَدَّق، بقدر ما تتضمّن قصّة الصبيّ الّذي صاح «الذئب!»، مرّات كثيرة وصُدِّق في كلّ مرّة، رغم أنّه كان كاذبًا في كلّ مرّة. لكن، ربّما يجب أن تكون كذلك. كاساندرا، ابنة ملك طروادة، الّتي ابتُليت بلعنة نبوءاتها الدقيقة الّتي لم يلتفت أحد إليها؛ ظنّها شعبها مجنونة وكاذبة في آن، وفي بعض الروايات، أُغْلِق عليها حتّى أخذها آغامنون غنيمة حرب إلى أن قُتِلا معًا.

أفكّر في كاساندرا بينما نبحر في مياه حروب الجنس المتقلّبة؛ لأنّ المصداقيّة قوّة مؤسِّسة في هذي الحروب، ولأنّ النساء عادة ما يُنْظَر إليهنّ بوصفهنّ فاقدات للمصداقيّة.

أفكّر في كاساندرا بينما نبحر في مياه حروب الجنس المتقلّبة؛ لأنّ المصداقيّة قوّة مؤسِّسة في هذي الحروب، ولأنّ النساء عادة ما يُنْظَر إليهنّ بوصفهنّ فاقدات للمصداقيّة.

ليس غير شائع عندما تقول امرأة شيئًا يطعن في رجل، خاصّة في الوضع الراهن، وخاصّة إن تعلّق الأمر بالجنس؛ فالاستجابة لا تُسائِل الحقيقة في ادّعائها فحسب، بل تُسائِل أهليّتها وحقّها في الكلام. أجيال متتالية من النساء قيل لهنّ إنّهنّ يتوهّمن، مشوَّشات، متلاعِبات، متآمرات، خبيثات، كاذبات بالفطرة، وعادة ما يُقال هذا كلّه دفعة واحدة.

يثير اهتمامي الدافع للتجاهل، وكيف ينسلّ بخفّة للاتّهام المعتاد للنساء بالهستيريا اللامترابطة. سيكون لطيفًا، لو وُصِفَ راش ليمبو، الّذي وصَف ساندرا فلوك بالـعاهرة والفاسقة؛ لشهادتها في الكونغرس عن الحاجة إلى تمويل تنظيم النسل، الّذي يبدو أنّه لم يفهم أصلًا كيفيّة عمل تنظيم النسل؛ ليمبو الغاضب الأبديّ، ملك سَلَطة الكلمات، ومتحدّي الحقائق الدائم، سيكون لطيفًا لو وُصِفَ بين الحين والآخر بالـهستيريّ.

 

بين كارسون وإطار فرويد النظريّ

عُرِفَت راشيل كارسون لعملها الاستثنائيّ حول مخاطر المبيدات الحشريّة في كتابها «The Silent Spring»، ورغم أنّ الكتاب يُعَدّ على درجة عالية من الموثوقيّة والدقّة في توثيق معلوماته ومصادره، ورغم اعتبار حجج كارسون نفسها نبوئيّة في الوقت الحاليّ، إلّا أنّ الشركات الكيميائيّة لم تكن سعيدة بعملها، وكونها أنثى، كان بمنزلة كعب أخيل بالنّسبة لها. في 14 تشرين الأوّل (أكتوبر) من عام 1962، نشرت مجلّة «Arizona Star»، مراجعة لكتابها بعنوان «الربيع الصامت يجعل الاحتجاج هستيريًّا». وفي الشهر اللاحق، نشرت «The New York Times»، مراجعة أكّدت للقرّاء أنّ المبيدات الحشريّة غير مضرّة بالبشر على الإطلاق، وأنّ كتاب كارسون "غير عادل، أحاديّ الجانب ومُبالِغ بشكل هستيريّ"، وأنّ عديد العلماء تعاطفوا مع الآنسة كارسون... مع تعلّقها الصوفيّ بتوازن الطبيعة، "لكنّهم يخشون تسبّب هيجانها العاطفيّ غير الدقيق... بالأذى"؛ بالمحصّلة، كانت كارسون عالِمة، لكن لبرهة طارئة وسط هيجانها العاطفيّ.

الـHysteria  مشتقّة من الكلمة اليونانيّة «Uterus»، وكان الاعتقاد أنّ الحالة الشعوريّة المضطربة مردّها لما عُرف بـ «الرحم المُنْزاح»؛ وهو ما يعني استثناء الرجال بالتعريف نفسه من التشخيص، الّذي يعني الآن التفكّك والإجهاد وربّما الاضطراب. راج التشخيص في نهايات القرن التاسع عشر، وفي بعض الحالات ظهر أنّ معاناة بعض النساء اللواتي كان تشخيصهنّ بالهستيريا من قِبَل أستاذ سيجموند فرويد، جان مارت كيركورت، تعود لتعرّضهنّ للإساءة الّتي سبّبت لهنّ الصدمة، وعدم القدرة على التعبير عن السبب.

خلَف فرويد أستاذه في علاج المريضات، اللواتي بدت مشاكلهنّ مرتبطة بالإساءة الجنسيّة في طفولتهنّ، وما كنّ يقلنه لا يمكن وصفه. بطريقة ما، حتّى اليوم في الحرب والحياة المدنيّة، ثمّة صدمات لا يمكن وصفها لشدّة قسوتها، ناجمة عن انتهاكات للصحّة الذهنيّة للضحيّة والأعراف الاجتماعيّة. الاعتداء الجنسيّ كالتعذيب هو اعتداء على الكرامة الجسديّة، انتهاك لقدرة التعبير عن الذات وقدرة الذات على التصرّف بنفسها. هو فِعل إسكات، فِعل إبادة يُنْزَع لتمزيق صوت الضحيّة الّتي عليها النهوض من تلك الإبادة لتتكلّم.

الصمت كجحيم دانتي، له دوائره المتراتبة. يأتي أوّلًا الكبت الداخليّ، التشكيك بالذات، القمع، التشوّش والشعور بالعار الّذي يجعل التكلّم صعبًا وربّما مستحيلًا، بجانب الخوف من العقاب أو النبذ في حالة الإفصاح.

أفضل الطرق الّتي نملكها لعلاج الصدمة تكمن في رواية القصّة واحترام الراوي والاعتراف به. مريضات فرويد تمكّنّ بصورة مدهشة من إيجاد طريقهنّ لرواية ما عانينه، وفي البداية سَمِعَهُنّ، وفي عام 1896، كتب: "لهذا، أفترض أنّه في العمق من كلّ حالة هستيريا، ثمّة حادثة - أو عدّة - من تجارب جنسيّة غير ناضجة"، "في كلّ الحالات، الأب، لا أستثني أبي،  اتُّهِمَ بأنّه منحرف"، ثمّ عاد ورفض ما توصّل إليه.

في كتابها «Trauma and Recovery»، كتبت الطبيبة النفسيّة النسويّة جوديث هرمان: "يظهر جليًّا في مراسلاته ازدياد اضطرابه جرّاء الآثار الاجتماعيّة المتطرّفة الناجمة عن فرضيّاته... بمواجهته لهذه المعضلة، توقّف فرويد عن الاستماع لمريضاته". لو كنّ يقلن الحقيقة، لتوجّب عليه تحدّي صرح البطريركيّة لدعمهنّ، ولاحقًا، تضيف: "بتصميم عنيد دفعه حتّى إلى مخادعات نظريّة أعمق؛ أصرّ على أنّ النساء تخيّلن وتُقْنَ إلى تلك الإساءات الجنسيّة الّتي اشتكينَ منها". وهكذا، كما لو أنّ حجّة شُكِّلَت لكلّ سلطة عدوانيّة، كلّ الذكور الّذين اقترفوا جرمًا ضدّ الإناث: هي أرادت ذلك، هي تخيّلت ذلك، هي لا تعرف ما تقول.

الصمت كجحيم دانتي، له دوائره المتراتبة. يأتي أوّلًا الكبت الداخليّ، التشكيك بالذات، القمع، التشوّش والشعور بالعار الّذي يجعل التكلّم صعبًا وربّما مستحيلًا، بجانب الخوف من العقاب أو النبذ في حالة الإفصاح. سوزان بريسون، أستاذة الفلسفة في قسم الفلسفة في «جامعة دارتموث»، اغْتُصِبَت عام 1990 من رجل غريب وصفها بالعاهرة، وأمرها بالخرَس بينما كان يخنقها بشكل متكرّر، محطّمًا رأسها بحجر، تاركًا إيّاها للموت. بعد ذلك عانت إشكاليّات عديدة في التحدّث عن التجربة: "أن أقرّر التحدّث عن اغتصابي شيء، وإيجاد الصوت الملائم لأفعل ذلك شيء آخر. حتّى بعد شفاء قصبتي الهوائيّة المكسورة، أواجه صعوبات في التكلّم. لم أكن قطّ خرساء تمامًا، لكن غالبًا ما عانيت نوبات سمّاها صديق بـ ‘الخطاب المحطّم‘، بحيث أتلعثم، أتعثّر، غير قادرة على صياغة جملة بسيطة دون تناثر الكلمات كعقد متكسّر".

تحيط بهذي الدوائر قوًى تحاول إسكات أيّ شخص يحاول التكلّم، بالإذلال، التنمّر، التخويف، وحتّى العنف المميت. يلاحظ أنّ هذه المنطقة الآن مسكونة بضحايا الاغتصاب المدرسيّ والجامعيّ، وفي حالات كثيرة، اللواتي حاولن الكلام هُدِّدْن وطُورِدْن، وبعضهنّ صِرْنَ انتحاريّات جرّاء ذلك. جرائم محتملة دون أيّ تحقيق أو محاكمة، ويبدو أنّ الكثير من الجامعات الأميركيّة تُخَرّج أعدادًا هائلة من المغتصبين غير المُدانين في هذه الأيّام. أخيرًا، وفي حال قيلت القصّة ولَم تُسْكَت راويتها بشكل فوريّ، تُجَرَّد القصّة وراويتها من المصداقيّة. ويمكن، بعقل منفتح، ونظرًا إلى العدائيّة الّتي تتّسم بها المنطقة، وصف الفترة الوجيزة الّتي استمع فيها فرويد لمريضاته بـ «الفجر الكاذب»؛ لأنّه وعلى وجه الخصوص عندما تتحدّث النساء عن الجرائم الجنسيّة وحقّهنّ في الكلام، يتعرّضن للهجوم، الهجوم الّذي يبدو ردّ فعل عكسيًّا، ويبدو متّسقًا مع نمط واضح، نمط له تاريخ.

 

النساء والأطفال فئة لا يعوّل عليها

جُوبه هذا النمط، وللمرّة الأولى بشكل شامل، في ثمانينات القرن الماضي. سمعنا كثيرًا عن الستّينات، لكنّ التغييرات الثوريّة في الثمانينات، في الأنظمة المتداعية حول العالم، غرف النوم، قاعات المحاضرات، أماكن العمل، الشوارع، وحتّى في المنظّمات السياسيّة الّتي استوحت من النسويّة إجماعًا ضدّ الطبقيّة، الأساليب السلطويّة، في معظمها نُسِيَت وأُهْمِلَت. كانت فترة متفجّرة، ورُفِضَت نسويّة تلك المرحلة بوصفها حركة قاتمة معادية للجنس؛ لكونها أشارت إلى الجنس باعتباره مجالًا للسلطة، وتلك السلطة مسؤولة عن الإساءة؛ ولأنّها وصفت بعضًا من طبيعة تلك الإساءة.

بدأت قضيّة حضانة مكمارين السيّئة السمعة عام 1983، إحدى أطول المحاكمات وأكثرها كلفة في تاريخ الدولة، عندما ادّعت أمّ في لوس أنجلوس أنّ طفلها تعرّض للتحرّش في تلك الحضانة.

 

لم تدفع النسويّة فقط نحو التشريع، لكن منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، دفعت باتّجاه تعريف كلّ أنواع الانتهاكات الّتي لم تكن محلّ اعتراف من قبل، وتسميتها. بفعل ذلك؛ اعْتُبِرَت إساءة استخدام السلطة إشكاليّة جدّيّة، وأنّ سلطة الرجال، الرؤساء، الأزواج، الآباء، البالغون عمومًا، ستُساءَل. لقد خلقوا إطارًا عمليًّا وشبكة دعم لقصص زنى المحارم، الاعتداء على الأطفال، الاغتصاب والعنف المنزليّ، وصارت هذه القصص جزءًا من الانفجار السرديّ الحادث في أيّامنا، بحيث يتكلّم أولئك الّذين صمتوا من قبل على تجاربهم الخاصّة.

جزء من فوضى تلك الحقبة أنّ أحدًا لم يعرف كيفيّة الاستماع للأطفال، أو حتّى كيفيّة سؤالهم، أو تمحيص ذكرياتهم أو ذكريات المرضى البالغين في العلاج النفسيّ. بدأت قضيّة حضانة مكمارين السيّئة السمعة عام 1983، إحدى أطول المحاكمات وأكثرها كلفة في تاريخ الدولة، عندما ادّعت أمّ في لوس أنجلوس أنّ طفلها تعرّض للتحرّش في تلك الحضانة. لم تكتفِ السلطات آنذاك بالتدخّل فحسب، بل طلبت من أولياء الأمور سؤال أطفالهم أسئلة مُوَجِّهةLeading questions، وعيّنت معالجًا نفسيًّا لمقابلة مئات الأطفال بمزيد من الأسئلة الموجِّهة، بمكافآت، بدُمًى ووسائل وأدوات أخرى كثيرة؛ للمساعدة في حَبْك قصص جامحة عن إساءات شيطانيّة.

غالبًا ما يُشار إلى نتائج تحقيقات قضيّة مكمارين الفوضويّة، باعتبارها دليلًا على أنّ الأطفال لا يستحقّون الثقة، وكذّابون مُتَوَهِّمون، إلّا أنّه من المفيد الإشارة إلى البالغين بوصفهم المشكلة في تلك القضيّة. يكتب أستاذ القانون، دوغ ليندر، أنّ المدّعي العامّ اعترف في مقابلة أنّ الأطفال بدؤوا في تنميق قصصهم عن اعتداءات جنسيّة وزخرفتها، وقال – بصفته مدّعيًا عامًّا – إنّه لم يكن لهم عمل في قاعة المحكمة، وأضاف شيئًا عن أدلّة تبرئة ربّما تكون أُخْفِيَت، وبالرغم من ذلك، فالمتّهم في تلك المحاكمة الطويلة، وشخص آخر، وُجِدا غير مذبَيْن، وهذا نادرًا ما يُذْكَر أيضًا.

 

«أنا أصدّقك آنيتا»

في الـ 11 من تشرين الأوّل (أكتوبر) 1991، استدعيت أستاذة القانون للشهادة أمام «لجنة الكونغرس القضائيّة». كانت المناسبة جلسة تأكيد لكلارنس توماس، المرشّح لـ «المحكمة العليا» من قِبَل جورج هـ. بوش، والمتحدّثة هي آنيتا هيل. عندما سُئِلَت في مقابلة خاصّة، ومن ثَمّ، بعدما تسرّبت المقابلة للصحافة، في جلسة سماع لـ «مجلس الشيوخ»، روت قائمة بالحوادث الّتي فيها توماس ومن ثَمّ رئيسها، جعلها تستمع له يتحدّث عن الأفلام الإباحيّة الّتي شاهدها وخيالاته الجنسيّة، ولمّا رفضت محاولاته للضغط عليها لمواعدته، قالت: "إنّه لم يقبل عُذْري ليكون صالحًا"، كما لو أنّ الأمر ذاته، لم يكن ممكنًا.

على الرغم من انتقادها لأنّها لم تفعل شيئًا تجاه سلوكه في ذلك الوقت، يظلّ مهمًّا تذكّر أنّ النسويّات تمكّنّ مؤخّرًا فقط من نحت مصطلح «التحرّش الجنسيّ»، وأنّه فقط عام 1986، بعد وقوع الحوادث الّتي ذكرتها، اعترفت «المحكمة العليا» بأنّ سلوكًا كهذا في أماكن العمل يُعَدّ انتهاكًا للقانون. عندما تحدّثت عن هذا الأمر عام 1991، هوجِمَت بشراسة مفرطة، وما يجعل الأمر مثيرًا للسخرية ولا يُصَدَّق في آن، أنّ المحقّقين جميعهم كانوا رجالًا وجمهوريّين في الآن ذاته. سأل السيناتور آرلين سبكتور أحد الشهود، الّذي قدّم شهادته بناءً على لقاءين عابرَين بـهيل، بأنّ هيل كان لديها تخيّلات جنسيّة عنه: "هل تعتقد بإمكانيّة أنّ الأستاذة هيل تخيّلت أو تصوّرت الأشياء الّتي تتّهمه بها؟"؛ لقد كان الإطار النظريّ لفرويد مرّة أخرى: عندما قالت أنّ شيئًا كريهًا قد حدث، فهي إذن قد تمنّت حدوثه، وربّما لم تستطع تمييز الفارق بين الخيال والواقع.

ازدادت ادّعاءات التحرّش بعد منح الضحايا القدرة على التعامل مع الإساءات في أماكن العمل. وفي انتخابات عام 1992، سُمِّيَت السنة بـ «سنة النساء»...

 

كانت الدولة في حالة هياج عارم، وفي نوع من الحرب الأهليّة؛ عديد النساء فهمن مدى عاديّة التحرّش وشيوعه، وكم من التصرّفات غير اللائقة الممكن التبليغ عنها، وكثير من الرجال لم يفهموا الأمر! في النسخة المختصرة، تمكّن توماس من النجاة بفعلته، وخضعت هيل لتجربة مذلّة. وأكثر الاتّهامات صخبًا جاءت من صحافيّ محافظ، ديفيد بروك، الّذي نشر أوّلًا مقالًا، ومن ثَمّ كتابًا كاملًا مكرّسًا لتشويه هيل. وبعد عقد من الزمان، تاب عن مقالته وكتابه وتحالفه مع اليمين، وكتب: "بفعل أيّ شيء يمكنني لتدمير مصداقيّة هيل؛ سلكت مسارًا عشوائيًّا، راميًا بكلّ المزاعم الازدرائيّة، وغالبًا المتناقضة الّتي تمكّنت من جمعها من معسكر توماس، في خليط واحد... هي، بكلماتي، كانت قليلًا فاسقة وقليلًا خليعة".

«أصدّقك آنيتا»، أصبحت شعارًا نسويًّا بعد ذلك، وغالبًا ما يُعْتَرَف بالفضل لهيل لإطلاقها ثورة في مسألة الاعتراف والاستجابة للتحرّش الجنسيّ في أماكن العمل. بعد شهر من جلسة الاستماع، مرّر «مجلس الشيوخ» «قانون الحقوق المدنيّة» لعام 1991، الّذي في جزء منه مكّن ضحايا التحرّش الجنسيّ من مقاضاة مشغّليهم لأيّ ضرر وبأثر رجعيّ، وازدادت ادّعاءات التحرّش بعد منح الضحايا القدرة على التعامل مع الإساءات في أماكن العمل. وفي انتخابات عام 1992، سُمِّيَت السنة بـ «سنة النساء»، وما زالت كارول موزلي براون، المرأة الأميركيّة الأفريقيّة الوحيدة الّتي تفوز بمقعد في «مجلس الشيوخ»، بجانب نساء أخريات في «مجلس الشيوخ» ونساء أعضاء أكثر في مجلس النوّاب.

 

مجاز غلّاية فرويد ذريعة آلِنْ

مع ذلك، حتّى الآن، عندما تقول امرأة شيئًا غير مريح عن سلوك ذكوريّ غير لائق، تُصَوَّر بتلقائيّة بالمتوهّمة، متآمرة، خبيثة، كذّابة بصورة مرضيّة، متذمّرة، لا تدرك المزاح أو أنّها هذا كلّه. وأكثر الردود مبالغة هو استعادة توظيف فرويد للمزحة حول الغلّاية المحطّمة؛ رجل يتّهم جاره بإعادته غلّايته المستعارة محطّمة يردّ بأنّه أعادها غير محطّمة، بل قد كانت أصلًا محطّمة عندما استعارها، وهو أصلًا لم يستعرها على أيّ حال. عندما تتّهم امرأة رجلًا، تصبح هي تلك الغلّاية المحطّمة.

حتّى هذا العام، عندما كرّرت ديلان فرّو اتّهاماتها لوالدها بالتبنّي، وودي آلن، بأنّه تحرّش بها، أصبحت الغلّاية المحطّمة الأكثر شهرة في الأرجاء. نشر آلن اعتراضًا يؤكّد فيه أنّه ما كان باستطاعته التحرّش بالطفلة في العلّيّة، المكان الّذي أشارت إليه؛ لأنّه لم يحبّ تلك الغرفة أصلًا، مقترحًا أنّ ابنته درّبتها ولقّنتها والدتها، ميا، الّتي ربّما استعانت بكاتب شبح لكتابة اتّهامها له، مضيفًا أنّ ميا بصورة مؤكّدة استوحت فكرة الاتّهام من أغنية حول العلّيّة.

مرّة أخرى حضرت الفجوة بين الجنسين؛ فالنساء وجدن الشابّة صادقة، فهنّ سمعن القصّة ذاتها من قبل، والرجال ركّزوا على الاتّهامات الزائفة والمبالغة في تكرار الحوادث، وعاد شبح محاكمة حضانة مكمارين مرّة أخرى، من قِبَل أناس يبدو أنّ لديهم فشلًا في الذاكرة عن المحاكمة ونتائجها.

المعنى الضمنيّ هو في تصنيف النساء فئة غير موثوقة، وبوصف اتّهامات الاغتصاب الزائفة، هي القضيّة الحقيقيّة، وهذا ما يُسْتَخْدَم لإسكات النساء أفرادًا، ولتجنّب نقاش العنف الجنسيّ وإظهار الرجال ضحايا مبدئيّين...

 

تلاحظ هِرمان في كتابها «Trauma and Recovery»، الّذي يعالج مسألة الاغتصاب، والتحرّش بالأطفال، والصدمة في أوقات الحروب، تلاحظ أنّ "الصمت والسرّيّة هما خطّ دفاع المعتدي الأوّل، إن انهارت السرّيّة، يهاجم المعتدي مصداقيّة ضحيّته. إن لم يستطع إسكاتها بالمطلق، يفعل كلّ شيء للتأكّد من أنّ أحدًا لن يستمع... بعد كلّ عمل فظيع يمكن المرء توقّع سماع الاعتذار المتوقّع: لم يحدث قطّ، الضحيّة تكذب، الضحيّة تبالغ، جلبت الأمر على نفسها، وعلى كلّ حال، الوقت وقت نسيان الماضي والمضيّ قدمًا. وكلّما كان أكثر قوّة، كان أقدر على تعريف الواقع، وسادت حججه على الواقع".

لكنّهم لا يسودون دائمًا في واقعنا. ما زلنا نعيش في زمن نصارع فيه تقرير مَنْ يُمْنَح حقّ الكلام ومَنْ يُمْنَح المصداقيّة، والضغط يأتي من الاتّجاهين معًا. من حركة حقوق الرجال والكثير من اللغط المعلوماتيّ، تأتي فكرة وجود وباء اتّهامات التحرّش الجنسيّ الزائفة. المعنى الضمنيّ هو في تصنيف النساء فئة غير موثوقة، وبوصف اتّهامات الاغتصاب الزائفة، هي القضيّة الحقيقيّة، وهذا ما يُسْتَخْدَم لإسكات النساء أفرادًا، ولتجنّب نقاش العنف الجنسيّ وإظهار الرجال ضحايا مبدئيّين. يتشابه الإطار النظريّ هذا بذاك المتعلّق بمسألة التزوير الانتخابيّ، وهي الجريمة الّتي نادرًا ما تؤثّر في العمليّة الانتخابيّة في الولايات المتّحدة، ومع ذلك يستخدم المحافظون هذه الادّعاءات، باعتبارها واسعة الانتشار لحرمان بعض الناخبين الفقراء، غير البيض والطلّاب، من حقّهم الانتخابيّ؛ لأنّها الفئات المحتمل أن تصوّت ضدّهم.

 

التكذيب عاقبةً للرفض الجنسيّ

لا أجادل هنا بأنّ النساء والأطفال لا يكذبون، الرجال والنساء والأطفال يكذبون، لكنّ الأخيرين ليسوا عرضة ليكذبوا بصورة أكثر من غيرهم، ومن غير المنطقيّ أنّ فئة الرجال تشتمل على بائعي السيّارات. البارون فون مونشهاوزن وريتشارد نيكسون يملكون صدقًا خاصًّا. أجادل بأنّ علينا إيضاح هذا الإطار النظريّ القديم، الّذي يشتمل على أنّ الأنوثة مرتبطة بالكذب والغموض، والّذي لا يزال شائعًا محبّبًا، يجب تعلّم ماهيّته وإدراكها كما هي.

صديقة من أصدقائي الّذين يعملون في مجال التدريب حول التحرّش الجنسيّ في جامعة كبرى، أبْلَغَتْ عن حادثة فيها أعطت محاضرة في كلّيّة الأعمال، وخلالها سأل أحد كبار الأساتذة: "لماذا علينا بدء تحقيق لأجل بلاغ من امرأة واحدة؟". ولديها عشرات القصص المماثلة وقصص أخرى عن نساء، وطالبات، وموظّفات، وأستاذات، وباحثات، يصارعن ليُصَدَّقْن، خاصّة عند شهادتهنّ ضدّ معتدين ذوي مكانة مرموقة.

هذا الصيف، ادّعى جورج ويل، كاتب عمود صحافيّ قديم، وجود وباء اغتصاب جامعيّ مزعوم، وأنّه عندما تجعل الجامعات، النسويّة أو الليبراليّون، "حالة الضحيّة، حالة مرغوبة وتُكافَأ بالامتيازات، فإنّ الضحايا سيتكاثرون". ردّت شابّة بوسم على تويتر #survivorprivilege، ناشرةً تغريدات مثل: "لم أدرك أنّه امتياز العيش مع PTSD، قلق مزمن وإحباط"، و #ShouldIbeQuiteلأنّني عندما أتكلّم يقول الجميع إنّها تكذب؟". عمود ويل بالكاد يشكّل التفافة على الفكرة القديمة عن طبيعة النساء بوصفهنّ لا يستحققن الثقة، وليس من شيء ليُرى في اتّهامات الاغتصاب، وعلينا فقط المضيّ قدمًا.

في أكثر النسخ شهرة من الأسطورة، تكذيب نبوءاتها كان نتيجة لعنة حلّت عليها من أبولو؛ لرفضها ممارسة الجنس مع الربّ.

 

في بداية هذا العام، عشت تجربة بسيطة من هذا النوع عندما نشرت إلكترونيًّا قطعة من مقال، نشرته سابقًا في السنوات الماضية عن كاليفورنيا في سبعينات القرن الماضي، وعلى الفور راسلني رجل غريب، رجل مترف ومثقّف، يهاجمني على فيسبوك في ردّه على فقرتين حول حادثتين وقعتا لي في الماضي، عن رجلين بالغين ضرباني عندما كنت مراهقة. سخطه وثقته بقدرته على محاكمتي كانا مذهلين، قال في جزء: "أنت تبالغين بعيدًا عن الواقع دون أيّ دليل تقدّمينه، مثل مذيعة في FOX NEWS، تشعرين بأنّه حقيقيّ فتقولين إنّه حقيقيّ. حسنًا، أنا أسمّيه هُراء". كان يجب أن أقدّم دليلًا، كما لو أنّ دليلًا يمكن تقديمه عن حادثتين وقعتا لي قبل عقدين من الزمان. أنا الشخص السيّئ الّذي يشوّه الحقائق، شخصيّة جدًّا بينما أعتقد أنّي موضوعيّة، أشعر، لكن مشاعري مشوّشة، ما أعرف وما أفكّر فيه مشوّش.

إن تمكّنّا من الاعتراف، أو حتّى تسمية نمط التكذيب والتجريد من المصداقيّة هذا، فسنتمكّن من تجاوز إعادة نقاش مصداقيّة النساء في كلّ مرّة يتحدّثن. شيء آخر عن كاساندرا؛ في أكثر النسخ شهرة من الأسطورة، تكذيب نبوءاتها كان نتيجة لعنة حلّت عليها من أبولو؛ لرفضها ممارسة الجنس مع الربّ. فكرة خسارة المصداقيّة جرّاء التمسّك بالحقوق الجسديّة الخاصّة كانت هنالك طوال الوقت. لكن، في حيوات كثيرات ككاساندرا في الواقع، نستطيع رفع اللعنة بتقريرنا مَنْ نُصَدِّق ولماذا نُصَدِّق.

 

*  كاتبة أميركيّة، كتبت في النسويّة، والبيئة، والسياسة، والمكان، والفنّ.

 


أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.